“كاذب، سأقتلك أيها الكاذب”
“اقسم لك يا هورو اونادا ان الامبراطور قلق عليك، توقف، ضع السلاح، لا”
شقت هاتان الصرختان هدوء تلك الليلة الرطبة من ليالي جزيرة لوبانج الفلبينية، اعقبهما صوت رصاصة، ثم ساد صمت مطبق.
بدأت قصتنا قبل هذه الرصاصة بكثير، و تحديدا في أواخر عام 1944 م، عندما صدرت أوامر الجيش الياباني للملازم هورو اونادا و رفاقه بالمحافظة على جزيرة لوبانج الفلبينية، و أن لا يستسلموا مهما حصل.نظر الجنود الى بعضهم و الى عددهم و عتادهم، و ادركوا أنها مهمة انتحارية، و أن القوات الأمريكية و الفلبينية ستسحقهم في وقت لا يكاد يذكر. و هذا فعلا ماحدث بعدها ببضعة أشهر، لكن الأوامر كانت واضحة، لا تستسلموا مهما حصل. اختبأ اونادا و رفاقه في الأحراش و من هناك بدأوا حرب عصابات يهاجمون فيها قوافل الإمداد و المزارع المجاورة و يطلقون النار على الجنود المنفردين.
لم يمض وقت طويل حتى انتهت الحرب، و واجه الحلفاء مشكلة جنودهم المختبئين مثل اونادا و رفاقه. ليس من الممكن إعادة بناء مادمرته الحرب بوجود خلايا كهذه تهاجم المزارعين و السلطات المحلية، إيقاف هؤلاء الجنود عن القتال و اعادتهم الى اوطانهم غدى امرا في غاية الأهمية للمضي قدما في فترة مابعد الحرب. اتفقت القوات الأمريكية و الفلبينية على اسقاط منشورات فوق الأحراش يخبرون الجنود فيها ان الحرب انتهت و بإمكانهم الآن العودة الى منازلهم. خرج الكثير من الجنود و اتجهوا عائدين لأوطانهم، لكن اونادا و رفاقه ظنوا أنها خدعة و تجاهلوا المنشورات. خمس سنوات و الاف المنشورات تسقط على امتداد الأحراش و الجزر، و الاف الجنود توقفوا و عادوا الى منازلهم، الا اونادا و رفاقه. في عام 1952 قامت الحكومة اليابانية بمحاولة أخيرة، هذه المرة تم اسقاط صور و رسائل من اهالي الجنود المختفين، مع رسالة من امبراطور اليابان نفسه يخبر فيها جنوده ان الحرب انتهت و يطلب منهم التوقف و العودة لبيوتهم، و فعلا ظهر العديد من الجنود و عادوا الى منازلهم، و مرة أخرى اعتقد اونادا ان ماهذه الا خدعة من الامبريالية القذرة ليخونوا اوامرهم، و رفض الرجوع.
مرت السنين، و ضاق المزارعون ذرعا بهذه الهجمات، و بدأوا بتسليح أنفسهم لمقاومة اونادا و رفاقه. في عام 1959 م سلم أحد رفاق اونادا نفسه، و قتل الآخر، ولازال اونادا مختبئا يقاوم. مر على نهاية الحرب خمسة و عشرون عاما، و وصلت الى اليابان اخبار قتل الجندي الياباني كوزوكا في جزيرة لوبانج و هو يهم بحرق المحاصيل. و بدأ الجميع بالتساؤل حول ماذا كان اونادا نفسه لازال على قيد الحياة، و أرسلت الحكومتان اليابانية و الفلبينية فرق بحث لإيجاد اونادا، لكن بدون نتيجة.
حتى وصل نوريو سوزوكي الى الفلبين عام 1972، و هو مغامر ياباني شاب، وضع لنفسه تحديا شخصيا في ان يجد اونادا و يعود به الى اليابان. كانت خطة المغامر العبقرية، و التي كادت تودي بحياته، هي ان يدور في الأحراش صارخا: هورو اونادا، الامبراطور قلق عليك. بعد أربعة ايام فوجئ المغامر الشاب بجندي كهل يوجه بندقية نحوه صارخا “كاذب، سأقتلك أيها الكاذب”. الحقيقة ان اونادا حينها كان قد سئم من الوحدة في الأحراش، فقرر استقبال هذه الصحبة الجديدة لكن ليس قبل انذاره برصاصة تحذيرية.
بدأ الشاب يطلع اونادا على مستجدات الحياة و كيف تغير العالم و سأله: ثلاثون عاما من الحياة في الأحراش و التغذي على الحشرات و القوارض و الاختباء من الجيش و المزارعين و المخاطرة بالحياة، لماذا؟
أجاب هورو ببساطة: “عندي أوامر”.
“لكن الأوامر تغيرت؟ و الحرب انتهت؟” سأل الشاب مجددا.
“ربما تكون خدعة، بالإضافة الى ان أي أوامر جديدة يجب ان تأتي من الضابط”
لم يكن اونادا يمزح، و فعلا اضطر المغامر الياباني الى ان يعود كل المسافة الى اليابان و يحضر، بمساعدة الحكومة، ضابط اونادا السابق ، و الذي كان كهلا متقاعدا في ذلك الوقت، حتى يأتي بنفسه لجزيرة لوبانج في الفلبين و يعطي اونادا اومرا جديدة بالتوقف و العودة الى الوطن.
استقبل اونادا في اليابان استقبال الأبطال و استضيف في العديد من البرامج و المقابلات، و ألف كتابا. بعد هذا كله، لم يستطع اونادا التعايش مع اليابان الجديدة، و انتقل للحياة في البرازيل.
مع كل التغييرات الني نراها في مجتمعنا، كم اونادا تشاهد حولك كل يوم؟ الذين يرون ان المعاناة هي دليل الولاء، و يجدون صعوبة أن الأوامر انتهت و انهم احرار الآن في ان يمارسوا حياتهم بالشكل الذي يرونه مناسبا.
نشرت هذه المقاله في صحيفة الحياة بتاريخالخميس، ١٩ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٧